الملك أركيليس
.
.
كان ملكا لبلاد شاسعة
.
.
لم يحمل لقب ملكا فحسب
.
.
بل تجسدت كل الخصال الملكية في كيانه
.
.
فالجيوش تتهاوى من بريق نصل سيفه
والحكماء ينقادون لبلاغة ورجاحة لسانه
لم يلمح أحد شك ولا ريبة في ذلك
.
.
.
.
ولكن... كان هناك ثمة شعور غريب كان يراوده باستمرار
شعور يصيبه بالإختناق والضيق في جميع أوقاته
فلم يعد يرى للحياة طعما ولا لألوانها بهجة ولهوا
إلى أن شك أنه ربما له هواء يستنشقه أو ماء يشربه غير المتواجد في هذه الحياة
فخرج ذات يوم من قصره الملئ بالأفراح والملاهي
وترك قلبه يجول داخل أحاسيس جميلة, كانت هي الجمال الوحيد الذي يقدره ويهواه
ألا وهي....
مشهد العينان البراقتان...... بدموع حرارة الشوق والفقدان
احساس اللمسات الدافئة.... التي تأخذ بيد القلوب التائهة
جمال ونضارة البسمة.... حين ترتسم على الشفاه بأحلى رسمه
.
.
كان يردد ويقول في نفسه:
ما أجمل هذه الأحاسيس الصادقة... التي اشتقت لها لروعة قلوبها الناطقة
ما أحلى العيون حين تنظر إلى النور... وما أحلى الشفاه حين تتغنى عن الزهور
.
تلك هي الأحاسيس التي كان قلبه يجول في عوالمها أثناء وقت الغروب حينما كانت عيناه سارحة في السماء التي تزيد في السواد...
وفي النجوم وهي تزيد في التلألؤ رغم البعاد...
وفي وجه القمر الذي يزيد بريقه في البياض...
كانت تلك اللحظات تغطي بظلمتها أرجاء المكان
فأخفـَـت تقاسيم وجهه ورسمة عيناه السارحتان
كان يبحث ويبحث داخل قلبه عن كل إحساس غامض اختبأ داخله كما يختبئ السطح المظلم من القمر
ليحميه بكل ما يملك من قوة ودهاء لا تخطر على عقل بشر
كان يشعر بغربته فكثر تساؤله عن حقيقة هويته
كان دائم التساؤل
من هو أنا؟؟؟؟؟ وكيف أصبحت أنا؟؟؟؟؟
وهل أنا هنا لأعيش كما هو الآن أنا؟؟؟؟
كان هذا التساؤل يجوب ويجول في خاطره طيلة حياته
وأصبح ينادي ويستغيث بأعلى صوته: أرشدني يا إلهي إلى حقيقة نفسي
.
.
.
فمكث يسير بخطوات هادئة حتى انتهى به الدرب إلى مأوىمظلم
كان مهترءا... كان قديما... كانباليا
ولكنه كان لا يعتقد أن أحدا يعلم كيف الوصولإليه... لهذا أحب اللجوء إليه
فدخله وكان حالكا في ظلمته..... فترك يمناه تجول في أوساط الظلام لتتلامس مع ما لم تتمكن عيناه من رؤيته... فزحفت أصابعه على أسطح ملساء.. وعلى أغلفة كتب متراصة على سواء
ظلت يده تحوم وتجول.... وصمت الظلام غمر قلبه فلم يبقى ما يحس به وما يقول
كل ماكانت تتلاقى به يده كان مألوفا ومدروكا... إلى أن أتت تلك اللحظة التي لمس فيها شيئا أصدر صوتا
صوتا تردد في مسامع قلبه ليملأ فراغه.. ويتلون في بياضه و صفائه
ردد في خاطره: ما هذا الصوت؟؟ لا لا بل ما هذه النغمة؟؟
وهدأت أنفاسه حينما أدرك أنها نغمة لبيانو عتيق...
فجلس أمامه... وترك أصابعه تعزف عليه بما ينسجم مع نغمات مشاعره فتركبت معزوفة ذي لون هادئ يغشاها شيء من الغموض.... فعزف وعزف لأعماق قلبه فلم يسعه النهوض
عزف طوال الليل تحت سماء مضاءة بالقمر
لم يتوقف للحظة ولا لشيء فطال الليل وطال السهر
ترك جفونه تسترخي... وترك لسانه تستشف كل ما بقلبه... ليقول
نور القمر يسطع من نافذتي... لكن قلبي محاط بالظلام
لذا سوف أشعل شمعة.... لعلها تخفف ما بقلبي من ظلام
فسوف أصنع البسمة في الوجوه لتصبح كجمال الحور... وسأصنع الخيال التي تطير في أجوائها القلوب كالطيور
نور القمر يسطع من نافذتي... لكن قلبي محاط بالظلام
.
.
.
.
استمر في العزف و الغناء.... مع نغمات تنطلق إلى العلاء
كانت الألحان تعزف في كل مكان... كأن الأشجار والأحجار أصبحت تعزف معه
.
.
بل كأن فرقة موسيقية نظمت آداءها لعزفه....
لأن نغماته أصبحت تزيد في الإمتداد.... وتعددت في درجات ألحانها فأصبح لها أبعاد
فتح عيناه..... لتتوجه نظراته إلى حركة أصابع يداه
عندها اعتقد انه مازال طائرا في عالم الأحلام... لأن الألحان التي تسمعها أذناه كأنها تجاوزت ما تؤديه أنامله من أنغام
أعاد النظر مرارا وتكرارا... أغمض عيناه وفتحتها مجددا ليتيقن أن هناك شيئا عجيبا يحدث
.
.
.
.
لم يكن حلما ولا تخيلا.... بل كان شيئا يحدث حقيقة
كان هناك من يعزف معه.... بل بجانبه.... يعزف بنفس آلة عزفه
لم يعتد أركيليس على رؤية الأعاجيب.... بل في الحقيقة... انه لم يرى أعجوبة قط في حياته
كانت رغبته في تحريك عيناه هي من أصعب المهام
استجمع كل قواه وكل ما يملك من عزيمة.... وبدأ باستدارة رأسه المتحجر
كانت لحظات عصيبة... ولكن...
لم يرى أي مخلوق بجانبه !!!!!
مالذي يحدث؟؟؟؟؟
لازالت الأنغام بكل جمال تعزف..... بالرغم من أن يداه مضطربة ترجف
.
.
انتفض جسمه بقوة... وفز قائما.... واندفعت يداه في سواد الظلام لتتلمس أي شيء ينير له الطريق
فتلامست مع مقبض نافذة, فأدارها بكل قوة فانفتحت لتسمح لضوء القمر بالدخول ليقشع الظلمة الحالكة..
ولكنها لم تنير ما بداخل المنزل فحسب... بل أظهرت هيئة المخلوق الذي عزف معه
أظهرت مخلوقا عجيبا... عجيبا في روعته....
.
.
بل عجيبة في روعتها... عجيبة في سواد ردائها... عجيبة في سواد شعرها... الذي انسدل على عينيها وغطى معظم جسمها
__________________
غموضه كظلمة السواد وصفاءه كنضارة البياض
هذا هو إحساس القلب.... هذا هو سحر الخيال